وأما المصالح الأخروية ، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها ، وهي العبادات مثلا ، فإن العقل لا يشعر بها على الجملة ، فضلا عن العلم بها على التفصيل.
ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها.
ولا يغترنّ ذو الحجى (١) بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل ، قبل النظر في الشرع ، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه ، لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل ، والأنبياء أيضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر ، وكل ذلك من لدن آدم عليهالسلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية.
غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس (٢) بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله وهو التعبد لله ، فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ـ ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها ـ بعض الأصول المعلومة.
فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها أو تلقفوا منها ، فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم ؛ وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا ، وليس الأمر كما زعموا.
فالعقل غير مستقل البتة ، ولا ينبني على غير أصل ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق. ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي. ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله.
فعلى الجملة ، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي. فالابتداع مضاد لهذا الأصل ، لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض ، فلا يبقى إلا ما ادّعوه من العقل ، فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ، ما رام تحصيله من جهتها ، فصارت كالعبث. هذا إن قلنا : إن الشرائع جاءت لمصالح العباد.
__________________
(١) الحجى : العقل.
(٢) درس الشيء درسا : ذهب أثره.