والثاني : أن يقول الحنفي : سؤر سباع الطير نجس ، قياسا على سباع البهائم ، وهذا ظاهر الأثر ، ولكنه ظاهر استحسانا ، لأن السبع ليس بنجس العين ، ولكن لضرورة تحريم لحمه ، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير ، لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه ، فوجب الحكم بطهارة سؤره ، لأن هذا أثر قوي وإن خفي ، فترجح على الأول ، وإن كان أمره جليا ، والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه.
والثالث : أن أبا حنيفة قال : إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عيّن كل واحد غير الجهة التي عينها الآخر ، فالقياس أن لا يحدّ ، ولكن استحسن حده. ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة ، فإذا عين كل واحد دارا ، فلم يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة ، فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ، ويمكن التزاحف.
فإذا قال : القياس أن لا يحد ، فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ، ولكنه يؤول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول ، فإنه إن لم يكن محدودا صار الشهود فسقة ، ولا سبيل إلى التفسيق ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلا فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد ، فليس هذا حكما بالقياس ، وإنما هو تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن ، وهذا يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى تحقيق مناطه.
والرابع : إن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف ، فإنه رد الإيمان إلى العرف ، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف ، كقوله : والله لا دخلت مع فلان بيتا : فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة ، والمسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك ، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه ، فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث.
والخامس : ترك الدليل لمصلحة ، كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعا ، فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين ، كتضمين صاحب الحمام الثياب ، وتضمين صاحب السفينة ، وتضمين السماسرة المشتركين ، وكذلك حمال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ، ولا حقّ عنده بالصناع ، والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع.