وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان ، وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار ، حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : من استحسن فقد شرع.
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه ، فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه ، فكيف ما يبنى عليه؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق.
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني عليه ، لو لا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير ، فتقوى ذلك عندي غاية ، وسكنت إليه النفس ، وانشرح إليه الصدر ، ووثق به القلب ، للأمر باتباعهم والاقتداء بهم ، رضي الله عنهم.
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء ، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم. وكل ما أوردتم في قضية السؤال وارد عليه ، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول ، فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره ، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ، ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ، ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته ، لوقوعه على وفق الكتاب والسنّة ظاهرا وباطنا؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة ، لا إباحة زوج غيره دائما ، ومنع زوجها منها.
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود : أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها ، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت ، وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان ، فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها ، أو ليس بقاطع للعصمة ، فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا : إذا قدم المفقود يخبر بين امرأته أو صداقها ، فإن اختار صداقها بقيت للثاني ، فأين هذا من القياس؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما ، ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه