والثاني : أنه قال فيها : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرءون من ذلك ، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة ، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة ، وإذ كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة.
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في العمل ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة. وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث ـ قال ـ : فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ : وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل! فما يسرني باختلافهم حمر النعم. وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم لا يختلفون ، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنّة.
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه ، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق ، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم ، وهو