بعده البتة ، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١) بدخولها تحت قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (٢) فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم ، رضينا بقضاء الله وقدره ، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنّة ، ويميتنا على ذلك بفضله.
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع ، وأن من رحم ربك أهل السنة ، ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا ، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل ، وهذا لا بدّ من بسطه.
فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى ، العالمين بمواردها ومصادرها.
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك ، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا ، بل كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :
أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ، ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع ، وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتراه آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها ، حتى يصير منها ما ظهر له بادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع ، وعليه نبّه الحديث الصحيح أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يسبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» (٣).
__________________
(١) سورة : هود ، الآية : ١١٨.
(٢) سورة : هود ، الآية : ١١٩.
(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.