فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقولهم ، وأساءوا الظن بما صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ، حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان ، وحشر الأجساد ، والنعيم والعذاب الجسمي ، وأنكروا رؤية الباري ، وأشباه ذلك ، بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا ، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ، إلى غير ذلك من الشناعات.
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات ، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة ، حرصا على أن يغلب عدوه ، أو يفيد وليه ، أو يجر إلى نفسه نفعا ، كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور ، فإنه عزل عن قضاء البيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد ، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ، وأن لا يفتي أحدا.
ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر ، فشكا إلى القاضي ابن تقي ضرورته إليه لمقابلته منزهه ، وتأذيه برؤيتهم ، أوان تطلعه من علاليه ، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه ، فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة ، فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلا ، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر ، وتوبيخهم ، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده.
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ، ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة ، وتقلد حقّا وناظر أصحابه فيها ، فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة ، فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم. وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة ، فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال : أما قول إمامنا