العلماء وكثرة الجهال ، فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب ، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث ، بل الأمر بالعكس ، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا ، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا ، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم.
ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : أبو بكر وعمر ـ قال ـ : فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ، قيل : فهؤلاء ماتوا! فمن الأحياء؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي ، فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق ، وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ، ولا عدّ سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية ، بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين ، فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد.
وأيضا ، فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ، ورمي في عماية ، وهو مقتضى الحديث الصحيح : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا» (١) الحديث.
روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهويه وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم» (٢) ، فقال رجل : يا أبا يعقوب! من السواد الأعظم؟ فقال : محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ، ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم؟ قال : أبو حمزة السكري ، ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان (يعني : أبا حمزة). وفي زماننا محمد بن أسلم ، ومن تبعه ، ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس ، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.
(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٦٣ ، الحاشية : ١.