وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ، ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيدا بالاتصاف به ، فهو إذا العلة في الثناء ، ولو لا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ، ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا ، لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق ، فليسوا بحكم من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك ، إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك ، لاشتراك الجميع فيها ، وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب حملهم للعلم الحاكم ، فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاما على الخلق إلا من ذلك الوجه ، كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضا ، فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم ، إذ ليسوا حجة إلا من جهته ، فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا حكاما؟ هذا محال.
وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ، ولا في العالم بالهندسة عربي ، فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع ، بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك ، فلا يصح أن يجعل حجة في العالم الحاكم ، لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه ، وهذا المعنى أيضا في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء.
ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه ، وهو أن العالم بالشريعة إذ اتّبع في قوله ، وانقاد إليه الناس في حكمه ، فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها ، لا من جهة أخرى ، فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، المبلغ عن الله عزوجل ، فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ ، أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا ، إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة. وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وثبت ذلك له عليه الصلاة والسلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة ، والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق ، فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت ، فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث بمقتضاها حتى يساوي النبي في الانتصاب للحكم بإطلاق ، بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة ، بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما ، إذا كان ـ بالفرض ـ خارجا عن مقتضى الشريعة