وهناك احتمالان في المراد من نسيان الخلق في هذه الآية ، الاحتمال الأول : إنّ الإنسان نسيَ خلقه الأول الذي بدأ من نطفة حقيرة وقطرة ماءٍ مهين ثم بدأ يتردّدُ ويشكك بقدرة الله على الإحياء الجديد.
والاحتمال الثاني : إنّ هذه الآية تشير إلى خلق آدم من التراب ، وكأنّها تريد أن تقول : ألم نخلق الإنسان من تراب في بادئ الأمر؟ فكيف يكون من المحال تكرار هذا الأمر؟ وذلك لأنّ «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد».
ومن اليديهي أنّ «النسيان» هنا إمّا جاء بمعنى النسيان الحقيقي الواقعي أو تنزيل الشخصِ منزلة الناسي وإن لم يكن في الواقع كذلك ، وذلك لأنّه لم يعمل وفق علمه بل اتّخذ موقفَ المُنكِرِ (١).
* * *
وفي الآية الثانية أشير إلى هذه الحقيقة ببيانٍ آخر ، فقد قال تعالى في جواب منكري المعاد : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟ حتى نعجز عن خلقه مرّة اخرى.
ثم يضيف تعالى : إنّ هؤلاء لم يشكوا في قدرة الله تعالى على الخلق الأول ، بل ترددوا وشككوا بالاحياء المجدد بسبب غفلتهم ونسيانهم أو بسبب تعصبهم وعنادهم أو أنّهم اعتادوا على ما يشاهدونه في حياتهم أنّهم لم يروا أحداً خرج من قبره حياً بعد موته : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّن خَلْقٍ جَدِيدٍ).
وهكذا ورّطوا أنفسهم في تناقضٍ واضح لايجدون له مخرجاً أبداً.
«عيينا» : من مادة «عَيّ» تأتي أحياناً بمعنى العجز وعدم القدرة وأحياناً بمعنى التعب والألم ، وقد جاءت هنا على المعنى الأول ، أي أننا لم نعجز عن الخلق الأول.
والمراد من «الخلق الأول» إمّا الإيجاد الأول لكل إنسان أو يختص بخلق آدم ، وأمّا ما احتمله بعض المفسرين من أنّ المراد من الخلق الأول هو خلق عالم الوجود فإنّه لا يتناسب مع بحثنا.
__________________
(١) جاء هذان الاحتمالان في تفسير روح المعاني ، ج ٢٣ ، ص ٥٠.