حتى نطقت. قال الشيخ أبو عبد الله الأنصارىّ : والتّذكّر فوق التفكّر ؛ لأنّ التفكّر طلب ، والتّذكّر وجود. يعنى أنّ التّفكر التماس الغايات من مبادئها. وقوله : التذكّر وجود ؛ لأنه يكون فيما قد حصل بالتّفكّر ، ثمّ غاب عنه بالنّسيان ، فإذا تذكّره وجده ، وظفر به. واختير له بناء التفعّل ؛ لحصوله بعد مهلة وتدريج ؛ كالتبصّر ، والتفهّم. فمنزلة التذكّر من التفكّر منزلة حصول الشىء المطلوب بعد التفتيش عليه. ولهذا كانت آيات الله المتلوّة والمشهودة ذكرى ؛ كما قال فى المتلوّة : (وَلَقَدْ آتَيْنا (١) مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، وقال فى القرآن : (وَإِنَّهُ (٢) لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ، وقال فى الآية المشهورة : (أَفَلَمْ (٣) يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) فالتّبصرة آية البصر ، والتّذكرة آية القلب. وفرق بينهما. وجعلا لأهل الإنابة ؛ لأنه إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر ، فاستدلّ بها على ما هى آيات له ، فزال عنه الاعتراض بالإنابة ، والعمى بالتبصرة ، والغفلة بالتّذكر (٤) ؛ لأنّ التبصرة توجب له حصول صورة المدلول فى القلب ، بعد غفلته عنها. فترتّبت المنازل الثلاثة أحسن ترتيب. ثمّ إنّ كلّا منها يمدّ صاحبها ، ويقوّيه ، ويثمره. وقال ـ تعالى ـ فى آياته المشهودة : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ
__________________
(١) الآيتان ٥٣ ، ٥٤ سورة غافر
(٢) الآية ٤٨ سورة الحاقة
(٣) الآيات ٦ ـ ٨ سورة ق
(٤) ب : «بالتذكرة»