له نفسان تستحى إحداهما من الأخرى ، وهذا أكمل ما يكون من الحياء ، فإنّ العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحى من غيره أجدر. وقال (١) يحيى بن معاذ رحمهالله : من استحى من الله مطيعا استحى الله منه وهو مذنب. وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ، ومعناه أنّ من غلب عليه خلق الحياء من الله حتّى فى حال طاعته فقلبه (٢) مطرق من بين يديه إطراق مستحى خجل ، فإنّه إذا واقع (٣) ذنبا استحى الله عزوجل من نظره إليه فى تلك الحالة لكرامته عليه فيستحى أن يرى من وليّه ومن يكرم عليه ما يشينه. وفى الشاهد [ما يشهد] بذلك ، فإن الرّجل إذا اطّلع على أخصّ النّاس به وأحبّهم إليه من صاحب أو ولد أو حبيب وهو يخونه فإنّه يلحقه من ذلك الاطّلاع حياء عجيب حتّى كأنّه هو الجانى ، وهذا غاية الكرم. وقد قيل : إنّ سبب هذا الحياء أنّه يمثّل نفسه الجانى فيلحقه الحياء كما إذا شاهد الرّجل من أحصر على المنبر عن الكلام فيلحقه الحياء فإنّه يخجل تمثيلا لنفسه بتلك الحالة.
وأمّا حياء الربّ ـ تبارك وتعالى ـ من عبده فنوع آخر لا تدركه الأوهام ولا تكيّفه العقول ، فإنّه حياء كرم وبرّ وجود ، فإنّه خير كريم يستحى من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا ، ويستحى أن يعذّب ذا شيبة شابت فى الإسلام. وكان يحيى بن معاذ يقول : سبحان من يذنب عبده ويستحى هو (٤).
__________________
(١) انظر الرسالة القشيرية ١٢٩
(٢) فى الاصلين : «فعليه» والظاهر أنه محرف عما أثبت.
(٣) فى الاصلين : «وقع» والظاهر ما أثبت.
(٤) فى الرسالة ١٢٩ : «العبد فيستحيى هو منه».