مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وعلى هذا الوجه قيل : اللهمّ أغننى بالافتقار إليك ، ولا تفقرنى بالاستغناء عنك. قال أبو القاسم (١) ، هو من الخلّة لا من الخلّة. قال : ومن قاسه بالحبيب فقد أخطأ لأنّ الله تعالى يجوز أن يحبّ عبده فإنّ المحبّة منه الثناء ولا يجوز أن يخالّه. وهذا القول منه تشهّ ليس بشيء ، والصّواب الّذى لا محيد عنه إن شاء الله أنّه من الخلّة وهى المحبّة التى قد تخلّلت روح المحبّ وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه ، كما قيل :
قد تخلّلت مسلك الروح منى |
|
وبذا (٢) سمّى الخليل خليلا |
وهذا هو السّر الذى لأجله ـ والله أعلم ـ أمر الخليل بذبح ولده وثمرة فؤاده وفلذة كبده ، لأنّه لمّا سأل من الله الولد وأعطاه تعلّقت به شعبة من قلبه ، والخلّة منصب لا يقبل الشركة والقسمة ، فغار الخليل على خليله أن يكون فى قلبه موضع لغيره ، فأمره بذبح الولد ليخرج المزاحم من قلبه ، فلمّا وطّن نفسه على ذلك وعزم عليه عزما جازما حصل مقصود الآمر ، فلم يبق فى ذبح الولد مصلحة ، فحال بينه وبينه وفداه بالذّبح العظيم ، وقيل له : (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٣) أى عملت عمل المصدّق (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٤) من بادر إلى طاعتنا أقررنا عينه كما قرّت عيناك بامتثال أوامرنا وإبقاء الولد وسلامته (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(٥) وهو اختيار المحبوب محبّه وامتحانه إيّاه ليؤثر مرضاته فيتمّ نعمته عليه ، فهو بلاء محنة ومنحة معا.
__________________
(١) هو أبو القاسم البلخى ، كما فى الراغب.
(٢) فى الراغب : «به».
(٣) الآيات ١٠٤ ـ ١٠٦ سورة الصافات
(٤) الآيات ١٠٤ ـ ١٠٦ سورة الصافات
(٥) الآيات ١٠٤ ـ ١٠٦ سورة الصافات