مزاياها العلمية لم تعتل بوجه وإن كانت تأسست مواطن علمية كبرى في الأقطار الإسلامية النائية والمستقلة عنها ... فهي في احتكاك معها دائما واتصال بها ولو على طريق الحج والزيارة أو على سبيل الأخذ والتلقي للدراسة من جانب رجال المدارس الأخرى وسائر العلماء ...
هي السوق الأعظم لتجارة العلوم وعرضها والمعهد الأكبر للمعارف والثقافة والحضارة ، كانت غنية برجالها لا يضارعها قطر ما ، ومركز اساسي للحضارة بأنواعها والبواقي فروع قد تفرعت منه ولم تستغن عنه ... وغالب من رحل عنها من علمائها نال المكانة السامية في القطر الذي حل فيه ...
هذه المكانة من دينية وعلمية وسياسية وأدبية وصناعية إنما يستدعي فقدانها وضياعها الحزن العظيم والألم الكبير. فإنها صارت مدينة عادية يعين لها وال أو وزير وتابعة لغيرها بعد أن كانت رأس المدن وأم البلاد وعادت لا قيمة لها سياسية ولا منزلة علمية ...
ناهيك مما اصابها في النفوس والأموال ، و(حادثة الضياع الكبرى) هي في الحقيقة ضياع الاستقلال والإدارة والمركز الديني ، فالأهلون وإن كانوا في تذمر من إدارة العباسيين بسبب ما كانوا يرون من أنواع الجفاء والظلم على يد المسيطرين من الاتراك فإن رأسها (خليفتها) منهم ، وصبغتها صبغتهم وطابعها طابعهم ، وإدارتها ـ وإن كانت قاسية ومؤلمة ـ تعد منهم. فلا يودون الأجنبي ولو ملك خير الصفات ولا يرغبون في سيطرة الأغيار وإن جاؤوا من السماء ...
هذا ما دعا الشعراء أن قالوا قصائد كثيرة أبدوا فيها احساسهم ، وما نالهم من آلام في هذه الوقعة التي لم تضارعها وقعة اصابت البلاد إلا حادثة (ضياع بغداد) على يد الانجليز ...