الثالث : ما أمر به لسبب [ثم] (١) يزول السبب ؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله (٢) ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها ، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء ؛ كما قال تعالى : أو ننسأها (٣) (البقرة : ١٠٦) فالمنسأ هو الأمر بالقتال ، إلى (٤) أن يقوى المسلمون ، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.
وبهذا التحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنّها منسوخة بآية السيف ، وليست كذلك بل هي من المنسأ (٥) ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم ، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ، وليس بنسخ ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا. وإلى هذا أشار الشافعيّ في «الرسالة (٦)» إلى النهي عن ادّخار لحوم (٧) الأضاحي من أجل الدافّة (٨) ، ثم ورد الإذن فيه فلم يجعله منسوخا ، بل من باب زوال الحكم لزوال علّته ؛ حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي.
ومن هذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) (المائدة : ١٠٥) الآية ، كان ذلك في ابتداء الأمر ، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود [غريبا] كما بدأ (٩)» عاد الحكم ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «فإذا رأيت هوى متبعا وشحّا مطاعا
__________________
(١) ساقط من المخطوطة.
(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ...) الآية (١٤) من سورة الجاثية.
(٣) قرأها أبو عمرو وابن كثير أو ننسأها ـ بالهمز مع فتح النون والسين ـ والباقون بغير همز مع ضم النون وكسر السين (الداني التيسير في القراءات السبع ص ٧٦).
(٤) في المخطوطة : (إلا).
(٥) في المخطوطة (بل هي منسية).
(٦) انظر الرسالة ص ٢٣٥ ، المسألة ٦٥٨.
(٧) في المخطوطة (لحم).
(٨) الدافّة : القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد (النهاية ـ دفف).
(٩) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ١٣٠ من رواية أبي هريرة رضياللهعنه ، في كتاب الإيمان (١) ، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (٦٥) ، الحديث (٢٣٢ / ١٤٥) ، وما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.