الآيتان السابقتان ؛ فلما عجزوا عن أن يأتوا بسورة تشبه القرآن على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء ، قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : ٨٨) فقد ثبت أنه تحدّاهم به ، وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه ، لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا ، ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : سحر وتارة قالوا : شعر وتارة [قالوا] (١) : «أساطير الأولين» كل ذلك من التحيّر والانقطاع.
قال [ابن أبي] (٢) طالب مكيّ (٣) في «اختصاره نظم القرآن للجرجاني» (٤) ، قال المؤلف : أنزله بلسان عربي مبين بضروب من النّظم مختلفة على عادات العرب ، ولكن الأعصار تتغير وتطول ، فيتغير النظم عند المتأخرين لقصور أفهامهم ، [٩٠ / أ] والنظر كله جار على لغة العرب ، ولا يجوز أن ينزله على نظم ليس من لسانهم ؛ لأنه لا يكون حجة عليهم ، بدليل قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (٥) (يونس : ٣٨) وفي قوله : (بَلْ كَذَّبُوا [بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ]) (٦) وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ (يونس : ٣٩) فأخبر أنهم لم يعلموه لجهلهم به ؛ وهو كلام عربي.
قال أبو محمد (٧) : لا يحتمل أن يكون جهلهم إلا من قبل أنهم أعرضوا عن قبوله ، ولا يجوز أن يكون نزل بنظم لم يعرفوه ؛ إذ لا يكون عليهم حجة ، وجهلنا بالنظم لتأخرنا عن رتب القوم الذي نزل عليهم جائز ، ولا يمنع. فمن نزل عليهم كان يفهمه إذا تدبّره لأنه بلغته ، ونحن إنما نفهم بالتعليم. انتهى.
وهذا الذي قاله مشكل ، فإنّ كبار الصحابة رضياللهعنهم حفظوا البقرة في مدة متطاولة ؛ لأنهم كانوا يحفظون مع التفهم. وإعجاز القرآن ذكر من وجهين : (أحدهما) :
__________________
(١) ليست في المخطوطة.
(٢) زيادة يقتضيها النص ، ليست في الأصول.
(٣) هو مكي بن أبي طالب حمّوش بن محمد القيسي تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٨.
(٤) ذكره القفطي في إنباه الرواة ٣ / ٣١٦ وسماه «انتخاب كتاب الجرجاني في نظم القرآن وإصلاح غلطه».
(٥) في المخطوطة زيادة (بسورة من مثله) وليست من القرآن الكريم.
(٦) ليست في المخطوطة.
(٧) هو مكي بن أبي طالب المتقدم.