وردّ بأن الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع ، ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر ؛ وثبوت كثير مما ليس بقرآن. (أما الأول) فلأنّا لو لم نشترط التواتر في المحلّ جاز ألا يتواتر كثير من المتكررات الواقعة في القرآن ، مثل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (الرحمن : ١٣) و (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات : ١٥). (وأما الثاني) فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد.
وقال القاضي أبو بكر في «الانتصار» (١) : «ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة ، وكره ذلك أهل الحق ، وامتنعوا منه. وقال قوم من المتكلمين : إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة ، وأوجه وأحرف ، إذا كانت تلك الأوجه صوابا في اللغة العربية ، وإن لم يثبت أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأها ، بخلاف موجب رأي القياسيين ، واجتهاد المجتهدين. وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه ، وخطّئوا من قال بذلك ، وصار إليه».
قال القاضي : «وقد ردّ الله عنه طعن الطاعنين ، واختلاف الضالّين ، وليس المعتبر في العلم بصحة النقل والقطع على فنونه بألاّ يخالف فيه مخالف ؛ وإنما المعتبر في ذلك مجيئه عن قوم بهم ثبت التواتر ، وتقوم الحجة ، سواء اتفق على نقلهم أو اختلف فيه ؛ ولهذا لا يبطل النقل إذا ظهر واستفاض ، واتفق عليه إذا حدث خلاف في صحته لم يكن من قبل».
وبذلك يسقط اعتراض الملحدين في القرآن ، وذلك دليل على صحة نقل القرآن وحفظه وصيانته من التغيير ، ونقض (٢) مطاعن الرافضة فيه من دعوى الزيادة والنقص ، كيف وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر : ٩) وقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (القيامة : ١٧) وأجمعت (٣) [الأمة] (٤) أن المراد بذلك حفظه على المكلّفين للعمل به وحراسته من وجوه الغلط والتخليط ، وذلك وجب القطع على صحة نقل مصحف الجماعة وسلامته.
__________________
(١) كتاب «الانتصار لنقل القرآن» لأبي بكر الباقلاني تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٨. وقد ذكر قوله السيوطي مختصرا في الاتقان ١ / ٢١٦ ، النوع الثاني والعشرون ... معرفة المتواتر.
(٢) في المخطوطة (وبعض).
(٣) في المخطوطة (وأجيب).
(٤) ساقطة من المخطوطة.