وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا : تأويل وبيان.
(فمثال الأول) قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى) [١١٢ / أ](تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (البقرة : ٢٣٠) فإنه دلّ على أن المراد بقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (البقرة : ٢٢٩) الطلاق الرجعيّ ، إذ لو لا هذه القرينة لكان الكلّ منحصرا في الطلقتين ؛ وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى ، فلهذا جعلت من قسم المنفصلة.
(ومثال الثاني) قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ و ٢٣) فإنه دلّ على جواز الرؤية ، ويفسّر به قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية. وأيضا قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين : ١٥) فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دلّ على إثباتها للأبرار ، وارتفع به الإجمال في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣).
وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر ومن مثله قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة : ٢٢٨) فإن صيغته صيغة الخبر ؛ ولكن لا يمكن حمله على حقيقته ، (١) فإنهنّ قد لا يتربّصن (١) فيقع خبر الله بخلاف مخبره وهو محال ، فوجب اعتبار هذه القرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال. ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر ؛ والمراد بها الأمر.
__________________
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ...) الآية (١٦) الحديث (١٩١٧). ومسلم في الصحيح ٢ / ٧٦٧ ، كتاب الصيام (١٣) ، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... (٨) ، الحديث (٣٥ / ١٠٩١). ولفظ الحديث كما ذكره البخاري : عن سهل بن سعد ، رضياللهعنه قال : «أنزلت : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل : (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولم يزل يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنّه إنما يعني الليل والنهار».
(١) العبارة في المخطوطة (فإنها قد لا تتربّص).