أدبر مع ذلك كان أشدّ لبعده عن السماع. ومن الدليل على أن التولّي لا يتضمن الإدبار قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة : ١٤٤) فإنه بمعنى الإقبال. وقوله : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) (النمل : ١٠) إشارة إلى استمراره في الهروب وعدم رجوعه ، يقال : فلان ولّى إذا رجع ، وكل راجع معقب ، وأهل التفسير يقولون : لم يقف ولم يلتفت.
وكذلك قوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) (النساء : ٧٩) قيل : ليست بمؤكدة ، لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولا ، كما قال تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا) (١) عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (الذاريات : ٤١) وقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) (البقرة : ٩١) جعلها كثير من المعربين مؤكدة ؛ لأن صفة الحق التصديق. قيل : ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل ، وأن يريدوا به تأكيد ما تضمنته الجملة.
ودعوى التأكيد غير ظاهرة ؛ لأنه يلزم من كون الشيء حقّا في نفسه أن يكون مصدّقا لغيره ، والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران ؛ وهو كونه حقا وكونه مصدّقا لغيره من الكتب ، فالظاهر أن (مُصَدِّقاً) حال مبينة لا مؤكدة ، ويكون العامل فيها (الْحَقُ) لكونه بمعنى الثابت ، وصاحب الحال الضمير الذي تحمّله (الْحَقُ) لتأوله بالمشتق.
وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) (آل عمران : ١٨) ف (قائِماً) حال مؤكدة ؛ لأن الشاهد به «لا إله إلا هو قائم بالقسط» ، فهي لازمة مؤكدة وقد وقعت بعد الفعل والفاعل. قال ابن أبي الربيع (٢) : ويجوز أن يكون حالا على جهة [١٤١ / أ] أخرى ، على معنى «شهد الله أنه منفرد بالربوبية وقائم بالقسط» فإنه سبحانه [وتعالى] (٣) بالصفتين لم ينتقل عنهما ، فهو متصف بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى ، وهو سبحانه لم يزل (٤) بهما لأن صفاته ذاتية قديمة.
__________________
(١) تصحفت في المخطوطة إلى (وأرسلنا).
(٢) هو عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله ، أبو الحسين بن أبي الربيع : إمام أهل النحو في زمانه ، أخذ القراءات عن محمد بن أبي هارون التيمي ، وقرأ النحو على الدّباج ، والشلوبين وأخذ عنه محمد بن عبيدة الإشبيلي ، وإبراهيم الغافقي وغيرهما. من تصانيفه «شرح الجمل» و «شرح الإيضاح» قال السيوطي : «لم يشذّ عنه مسألة في العربية» ت ٦٨٨ ه (بغية الوعاة ٢ / ١٢٥).
(٣) ليست في المخطوطة.
(٤) في المخطوطة (لا يزل).