فما أقبح ما وقع «ثعبان» وما أضعف ما جاء «دائم الدهر» ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت ، فقال : لا ينكر هذا على مثل الجراوي ، فسبحان من جعل روحه ونسبه وشعره (١) تتناسب في الثقالة.
وإن أردت الافتخار بالفرسان ، والتفاضل بالشجعان ، فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورة ، وآثارهم مذكورة ، وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله بن مردنيش وأنه كان يدفع في مواكب النصارى ويشقّها يمينا ويسارا منشدا (٢) : [الوافر]
أكرّ على الكتيبة لا أبالي |
|
أحتفي كان فيها أم سواها |
حتى أنه دفع يوما في موكب من النصارى فصرع وقتل ، وظهر منه ما أعجبت به نفسه ، فقال لشيخ من خواصّه ، عالم بأمور الحرب مشهور بها : كيف رأيت؟ فقال له : لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال ، وأعلى مرتبتك ، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ، ويتعرّض بهلاك نفسه إلى هلاكهم (٣) ، فقال له : دعني فإني لا أموت مرتين ، وإذا متّ أنا فلا عاش من بعدي.
والقائد أبو عبد الله بن قادوس (٤) الذي اشتهر من شجاعته ومواقعه في النصارى وحسن بلائه ما صيّر النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء : مالك؟ أرأيت ابن قادوس في الماء ، وهذه مرتبة عظيمة : [الكامل]
والفضل ما شهدت به الأعداء
ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكر في كتيبة مجرّدة برسم الغارة على بلاد النصارى ، فوقع في جمع كبير منهم ، فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر ، فجعل يقاتل مع أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه ، وفرّ عنه ، فناداه مستغيثا ، فقال : اصبر ، ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق (٥) فقال : اجر إلى هذا النصراني ، فخذ فرسه ، وركض نحوه ، فأسقطه ، وقال لصاحبه : اركب ، فركب ونجا معه سالما.
__________________
(١) في ب «نسبه وروحه وشعره».
(٢) في ب ، ه : «وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها».
(٣) في ب : «هلاك جيشه».
(٤) في ب ، ه : «بن قادس» في كل المواضع.
(٥) في ج : «قد طرف».