كتبت يا سيدي ، وأجلّ عددي ، كتب الله تعالى لك السعادة ، وأدام لك العزّ والسيادة ، سائلا مسترشدا ، وباحثا مستخبرا ، وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كلّ فضل ، ومنهل كلّ خير ونبل (١) ، ومصدر كلّ (٢) طرفة ، ومورد كلّ تحفة ، وغاية آمال الراغبين ، ونهاية أماني الطالبين ، إن بارت تجارة فإليها تجلب ، وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق ، مع كثرة علمائها ، ووفور أدبائها (٣) ، وجلالة ملوكها ، ومحبّتهم في العلم وأهله ، يعظّمون من عظّمه علمه ، ويرفعون من رفعه أدبه ، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب : يقدمون من قدمته شجاعته ، وعظمت في الحروب نكايته ، فشجّع الجبان ، وأقدم الهيّبان ، ونبه الخامل ، وعلم الجاهل ، ونطق العييّ ، وشعر البكي ، واستنشر البغاث ، وتثعبن الحفّاث (٤) ، فتنافس الناس في العلوم ، وكثر الحذاق بجميع (٥) الفنون ، ثم هم مع ذلك في غاية (٦) التقصير ونهاية التفريط ، من أجل أنّ علماء الأمصار دوّنوا فضائل أمصارهم ، وخلّدوا في الكتب مآثر بلدانهم ، وأخبار الملوك والأمراء ، والكتّاب والوزراء ، والقضاة والعلماء ، فأبقوا لهم ذكرا في الغابرين يتجدّد على مرّ الليالي والأيام ، ولسان صدق في الآخرين ، يتأكّد مع تصرّف الأعوام ، وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم كلّ امرئ منهم قائم في ظلّه لا يبرح ، وراتب (٧) على كعبه لا يتزحزح ، يخاف إن صنّف ، وإن يعنّف ، وإن ألّف أن يخالف ، ولا يؤالف ، أو تخطفه الطّير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، لم يتعب أحد منهم نفسا في جمع فضائل أهل بلده ، ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه ، ولا بلّ قلما بمناقب كتّابه ووزرائه ، ولا سوّد قرطاطا (٨) بمحاسن قضاته وعلمائه ، على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه ، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه ، لوجد للقول مساغا ، ولم تضق عليه المسالك ، ولم تخرج به المذاهب ، ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد ، ولكنّ همّ أحدهم أن يطلب شأو من تقدّمه من العلماء ليحوز (٩) قصبات السبق ، ويفوز بقدح ابن مقبل ، ويأخذ بكظم دغفل ، ويصبر شجا في حلق أبي العميثل ، فإذا أدرك بغيته ، واخترمته منيّته ، دفن معه أدبه وعلمه ، فمات ذكره ، وانقطع خبره ، ومن قدّمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس (١٠) ، فألّفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدّد طول الأبد.
__________________
(١) كلمة «ونبل» ساقطة من ب ، ه.
(٢) في ب : «ومقصد كل طرفة».
(٣) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه : «ونور آدابها».
(٤) الحفاث : حيوان كالثعبان ولكنه غير مؤذ.
(٥) في ب : «في جميع الفنون».
(٦) في ب ، ه : «على غاية التقصير».
(٧) راتب : ثابت.
(٨) في ب : «قرطاسا».
(٩) في ه : «ليحرز قصبات السبق».
(١٠) الأكياس : جمع كيّس ، وهو الفطن الذكي.