فإن قلت : إنه كان مثل ذلك من علمائنا ، وألّفوا كتبا لكنها لم تصل إلينا ، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق ؛ لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب ، أو رحلة قارب ، لو نفث من بلدكم مصدور ، لأسمع من ببلدنا في القبور ، فضلا عمّن في الدّور والقصور ، وتلقّوا قوله بالقبول كما تلقّوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سمّاه بالعقد ، على أنه يلحقه فيه بعض اللوم ، لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده ، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه ، أكثر الحزّ وأخطأ المفصل ، وأطال الهزّ لسيف غير مقصل (١) ، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم ، وإغفال ما يهمهم.
فأرشد أخاك أرشدك الله! واهده هداك الله! إن كانت عندك في ذلك الجليّة ، وبيدك فصل القضية ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فكتب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، عند وقوفه على هذه الرسالة ، ما نصّه :
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمد عبده ورسوله ، وعلى أصحابه الأكرمين ، وأزواجه أمّهات المؤمنين ، وذرّيّته الفاضلين الطيّبين.
أمّا بعد يا أخي يا أبا بكر ، سلام عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ ، وكثرت الأيام والليالي ، ثم لقيك (٢) في حال سفر ونقلة ، ووادّك في خلال جولة ورحلة ، فلم يقض من محاورتك (٣) أربا ، ولا بلغ في محاورتك مطلبا ، وإنّي لمّا احتللت بك ، وجالت يدي في مكنون كتبك ، ومضمون دواوينك ، لمحت عيني في تضاعيفها درجا ، فتأمّلته ، فإذا فيه خطاب لبعض الكتّاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية ، ثم ممّن ضمّته حاضرة قيروانهم ، إلى رجل أندلسي لم يعيّنه باسمه ، ولا ذكره بنسبه ، يذكر له فيها أنّ علماء بلدنا بالأندلس ـ وإن كانوا على الذّروة العليا من التمكن بأفانين العلوم ، وفي الغاية القصوى من التحكّم على وجوه المعارف ـ فإنّ هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم ، ومكارم ملوكهم ، ومحاسن فقهائهم ، ومناقب قضاتهم ، ومفاخر كتّابهم ، وفضائل علمائهم ، ثم تعدّى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منّا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم ، ويبقي علمهم ، بل قطع على أنّ كلّ واحد منهم قد مات فدفن علمه معه ، وحقّق ظنّه في ذلك ، واستدلّ على صحّته عند
__________________
(١) السيف المقصل : القاطع البتار.
(٢) في ب ، ه : «ثم لقيتك في حال سفر».
(٣) في ب ، ه : «فلم يقض من مجاورتك ... من محاورتك مطلبا».