ثم وإن سلمنا اتفاق / العقلاء على ذلك ؛ ولكن لا نسلم أن مدرك العلم به الضرورة ؛ وبيانه من وجهين :
الأول : هو أن الضرورة لا معنى لها إلا ما لو خلى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوه (١) من غير التفات إلى (٢) نظر (٢) ، أو عرف متبع ؛ لوجد نفسه مصدقا به غير خال عنه : وذلك : كالعلم باستحالة اجتماع الضدين ، وأن الواحد أقل من الاثنين ، وأن الواحد فى آن واحد لا يكون فى مكانين وكما يجده الإنسان فى نفسه من الألم ، والغم ، والحزن ، والفرح ، وغير ذلك.
ولا يخفى أن ما مثل هذه الأشياء ليس كذلك ؛ فلا يكون العلم به ضروريا.
الثانى : [هو] (٣) أن العلم الضرورى لا ينازع فيه خلق لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب ، والمحال عادة ، ومن خالف ونفى كون العلم بهذه الأمور ضروريا بهذه المثابة ؛ فلا يكون ضروريا.
وربما قيل فى بيان امتناع الضرورة وجهان آخران.
الأول : هو أن الحكم بكون الكذب ، والظلم قبيحا قضية تصديقية ، والحكم التصديقى لا يمكن دون تصور مفرداته. فلو كان العلم به ضروريا ؛ لكان العلم بحقيقة الكذب ، والظلم ضروريا ؛ وليس كذلك.
وهو فاسد ؛ فإن القضية الضرورية : هى التى يصدّق العقل بها من غير توقف على أمر خارج غير تصور مفرداتها ؛ بل إذا تصورت مفرداتها بادر العقل بالنسبة الواجبة لها (٤) من غير توقف على أمر آخر. فكون معنى الظلم ، أو القبح غير معلوم بالضرورة ، لا ينافى أن تكون النسبة بين الظلم ، والقبح ـ بعد تصورهما ـ معلومة بالضرورة.
ولهذا فإنا نعلم استحالة الجمع بين السواد ، والبياض بالضرورة وإن كانت حقيقة السواد والبياض غير معلومة بالضرورة على (٥) ما يجده كل عاقل من نفسه.
__________________
(١) فى ب (النشو).
(٢) فى ب (إلى غير نظر).
(٣) ساقط من أ.
(٤) فى ب (إليها).
(٥) فى ب (كما يجده).