بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» (١) وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ، ولكنه قد يحمل على العموم العاديّ ، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق ، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري ، وما نقلوه من مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على عليّ رضي الله عنه ، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ، ولكن الغالب في الواقع الإصرار.
ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله.
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى ، وصاد عن سبيل الشهوات ، فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه ، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع ، فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى ، وهي أن المبتدع لا بدّ له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ، فصار هواه مقصودا بدليل شرعيّ في زعمه ، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة.
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به.
وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبادة مفتون ، واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : «يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه» (٢) إلى آخر الحديث.
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم.
فالمبتدع : يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من
__________________
(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ٤٥٩٧).
(٢) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.