أصناف الشهوات ، بل التعظيم على شهوات الدنيا ، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات ، عن جميع الملذوذات ، ومقاساتهم في أصناف العبادات ، والكف عن الشهوات؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم.
قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ* عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً) (١) ، وقال : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢).
وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ، ونشاط يداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى ، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده ، فما الذي يصده عن الاستمساك به ، والازدياد منه؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره ، واعتقاداته أوفق وأعلى؟ أفيفيد البرهان مطلبا؟ (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣).
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى ، فلقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (٤) ، حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ، ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه ، لما سمعوا من خواره ، ولما ألقى إليهم السامريّ فيه ، فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم.
قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم ، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا
__________________
(١) سورة : الغاشية ، الآيات : ٢ ـ ٤.
(٢) سورة : الكهف ، الآيتان : ١٠٣ ـ ١٠٤.
(٣) سورة : المدثر ، الآية : ٣١.
(٤) سورة : الأعراف ، الآية : ١٥٢.