والثاني : أن الشرع قد دلّ على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع ، وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم ، ولذلك تجدهم يتأوّلون كل دليل خالف هواهم ، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم. ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) ، فأثبت لهم الزيغ أولا ، وهو الميل عن الصواب ، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى ، الذي هو أم الكتاب ومعظمه ، ومتشابهه على هذا قليل ، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله ، وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله ؛ أو يعلمه الله والراسخون في العلم ، وليس إلا بردّه إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك ، فانظروا كيف اتبعوا أهواءهم أولا في مطالبة الشرع ، بشهادة الله.
وقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) (٢) ، الآية. فنسب إليهم التفريق ، ولو كان التفريق من مقتضى الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتى به في معرض الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى.
وقال تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣) ، فجعل طريق الحق واضحا مستقيما ونهى عن البنيّات ، والواضح من الطرق والبنيّات ، كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية ، فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البنيّات في الشرع فواضح أيضا ، فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع.
وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٤).
فهذا دليل على مجيء البيان الشافي ، وأن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل ، فهو إذا من تلقاء أنفسهم ، وهو اتباع الهوى بعينه. والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه ، وإذا اتبع هواه كان مذموما وآثما. والأدلة عليه أيضا
__________________
(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.
(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.
(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.
(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.