والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب فقال له حمدان : أنقذني أنقذك الله ، وأفض عليّ من العلم ما تحييني به ، فما أشد احتياجي لمثل ما ذكرت! فقال له : وما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه ، فقال : فما عهدك؟ فاذكره فإني ملتزم له فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقك ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضا ، فالتزم حمدان عهده ، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله ، حتى استدرجه واستغواه ، واستجاب له في جميع ما ادّعاه ، ثم انتدب للدعوة وصار أصلا من أصول هذه البدعة ، فسمي أتباعه القرامطة.
ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١) ، وقوله تعالى : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٢).
وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية وكان يشار إليه بالعلم والفهم ، فبلغ خبره أحمد بن طولون ، فاستحضره وسأله عن أشياء كثيرة ، من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد أحضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ، فسألوه عن ذلك ، فقال : دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية ، تدفعها العقول ، وتنفر منها النفوس ، لتباينها وتضادها ، لا نظر يقويها ، ولا جدل يصححها ، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها ، والفحص عنها. ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة ، وحسن سياسة ، وعقول راجحة ، قد انقادوا إليها ، وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا بدلائل شاهدوها ، وآيات ومعجزات عرفوها ، أوجبت انقيادهم إليها ، والتدين بها.
فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها؟ فقال : وهل يدرك ذلك أو تعلم غايته؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة. ووصفهم للأقانيم (٣) والجوهر وهو الثالوثي وهل
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٤.
(٢) سورة : الشعراء ، الآيات : ٧٢ ـ ٧٤.
(٣) الأقانيم : جمع أقنوم : الأصل والأقانيم الثلاثة عند النصارى : الأب والابن وروح القدس.