الأسودة ، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين ، فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ، ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون ، فصار على استقامة ، وجرى على اجتماع واتساق ، فالشاذ مقهور مضطهد ، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود ، وقوته إلى الضعف المنتظر ، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده ، واقتضى سرّ التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب ، فتكالبت على سواد السنّة البدع والأهواء ، فتفرق أكثرهم شيعا. وهذه سنّة الله في الخلق : إن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١) ، وقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) ، ولينجز الله ما وعد به نبيه صلىاللهعليهوسلم من عود وصف الغربة إليه ، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم ، وذلك حين يصير المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، وتصير السّنة بدعة ، والبدعة سنة ، فيقام على أهل السّنة بالتثريب والتعنيف ، كما كان أولا يقام على أهل البدعة طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة ، فلا تجتمع الفرق كلها ـ على كثرتها ـ على مخالفة السّنة عادة وسمعا ، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله ، غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم ، لا يزالون في جهاد ونزاع ، ومدافعة وقراع ، آناء الليل والنهار ، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم.
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جار مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان ، فمن وافق فهو عن المطالب المصيب على أي حال كان ، ومن خالف فهو المخطئ المصاب ، ومن وافق فهو المحمود السعيد ، ومن خالف فهو المذموم المطرود ، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية ، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية.
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره ، وذلك أني ـ ولله الحمد ـ لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر العلم طلبي ، أنظر في عقلياته وشرعياته ، وأصوله وفروعه لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر ، حسبما اقتضاه الزمان
__________________
(١) سورة : يوسف ، الآية : ١٠٣.
(٢) سورة : سبأ ، الآية : ١٣.