والإمكان ، وأعطته المنة (١) المخلوقة في أصل فطرتي ، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة ، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء ، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه ، أو انقطع في رفقتي ، التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي ، غائبا عن مقال القائل وعذل العاذل ، ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللائم ، إلى أن منّ عليّ الرب الكريم ، الرءوف الرحيم ، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنّة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد فيه ، وإن الدين قد كمل ، والسعادة الكبرى فيما وضع ، والطلبة فيما شرع ، وما سوى ذلك فضلال وبهتان ، وإفك وخسران ، وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى ، محصل لكليتي الخير دنيا وأخرى ، وما سواهما فأحلام وخيالات وأوهام ، وقام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ، ولا ترتمي نحو مرماه : (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٢) ، والحمد لله والشكر كثيرا كما هو أهله. فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه ، فابتدأت بأصول الدين عملا واعتقادا ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول ، وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن أو من البدع ، كما أبين ما هو من الجائز وما هو من الممتنع ، وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية ، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالسواد الأعظم ، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة.
وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامة على الطريق ، وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ، ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة ، فكيف في زماننا هذا فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير ، كما روي عن أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي :
__________________
(١) المنّة : القوة.
(٢) سورة : يوسف ، الآية : ٣٨.