ولذلك قال العلماء : لو أن نبيا من الأنبياء ادعى الرسالة ، وقال : إنني إن أدع هذه الشجرة تكلمني ، ثم دعاها فأتت وكلمته وقالت : إنك كاذب ، لكان ذلك دليلا على صدقه لا دليلا على كذبه ، لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه ، وكون الكلام تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له.
فكذلك نقول في هذه المسألة : إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراما ، لا يدل ذلك على أن الحكم بالإمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم.
وكذلك مسألة الخواص ، فإن التوقّي من مظان المهلكات مشروع ، فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع ، وهو معتاد في أهل هاته الطريقة.
وكذلك كلام الشجرة للشبلي من جملة الخوارق وبناء الحكم عليه غير معهود.
ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة ، حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيري قال في باب وصية المريدين من رسالته : إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ، ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف ، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال ، وهؤلاء الطائفة ـ يعني : الصوفية ـ ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه ، ولهذا قيل : إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة ، فقد فسخ عقده ، ونقض عهده فيما بينه وبين الله.
فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع ، وهو ما كان عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين ، فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التي قال فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» (١) فيه ما فيه ، وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعا للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة وإيثارا إلى ما يبنى عليه من المجاهدة.
ومن ذلك أن القشيري جعل من جملة ما يبني عليه من أراد الدخول في طريقهم : الخروج عن المال ، فإن ذلك الذي يميل إليه به عن الحق ، ولم يوجد من يدخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرّته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج إلى آخر ما قال ، وهو
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ١٠٨).