في غاية الإشكال مع ظواهر الشريعة ، لأنا نعرض ذلك على الحالة الأولى ، وهي حالة رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع أصحابه الكرام ، إذ لم يأمر أحدا بالخروج عن ماله ولا أمر صاحب صنعة بالخروج عن صنعته ، ولا صاحب تجارة بترك تجارته وهم كانوا أولياء الله حقّا ، والطالبون لسلوك طريق الحق صدقا ، وإن سلك من بعدهم ألف سنة لم يبلغ شأوهم ، ولم يبلغ هداهم.
ثم إنه كما يكون المال شاغلا في الطريق عن بلوغ المراد ، فكذلك يكون فراغ اليد منه جملة شاغلا عنه ، وليس الماضي أولى بالاعتبار من الآخر ، فأنت ترى كيف جعل هذا النوع ـ الذي لم يوجد في السلف عهده ـ أصلا في سلوك الطريق ، وهو ـ كما ترى ـ محدث ، فما ذلك إلا لأن الصوفية استحسنوه ، لأنه بلسان جميعهم ينطق.
ومن ذلك أنهم يقولون : إنه لا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين ، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى ، وهذا النفي العالم يستنكر في الحكم الشرعي ، ألا ترى ما جاء في الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله : «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، وذلك فيما لم يكن حدّا من حدود الله» (١) فلو كان العفو غير صحيح لكان مخالفا لهذا الدليل ، ولما جاء من فضل العفو ، وأيضا فإن الله يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف ، ومن جملة الرفق شرعية التجاوز والإغضاء ، إذ العبد لا بدّ له من زلة وتقصير ، ولا معصوم إلا من عصمه الله.
من ذلك أخذهم على المريد أن يقلل من غذائه ، لكن بالتدريج شيئا بعد شيء لا مرة واحدة ، وأن يديم الجوع والصيام ، وأن يترك التزوج ما دام في سلكه ، ويعدّ ذلك كله من مشكلات التشريع ، بل هو شبيه بالتبتل الذي رده رسول الله صلىاللهعليهوسلم على بعض
__________________
(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الحدود ، باب : في الحد يشفع فيه (الحديث : ٤٣٧٥). وأخرجه أحمد في المسند (٦ / ١٨٦).