ومن الأمثلة أيضا أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق تعلقا بالمتشابه ، والمتشابه الذي تعلقوا به على وجهين : عقلي ـ في زعمهم ـ وسمعي.
فالعقلي : أن صفة الكلام من جملة الصفات ، وذات الله عندهم بريئة من التركيب جملة ، وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات ، وهو محال ، لأنه واحد على الإطلاق ، فلا يمكن أن يكون متكلما بكلام قائم به ، كما لا يكون قادرا بقدرة قائمة به ، أو عالما بعلم قائم به ، إلى سائر الصفات.
وأيضا فالكلام لا يعقل إلا بأصوات وحروف ، وكل ذلك من صفات المحدثات ، والباري تنزه عنها ، وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويله قوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١) وأشباهه.
وأما السمعي : فنحو قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) والقرآن إما أن يكون شيئا ، أو لا شيء ، ولا شيء ، عدم ، والقرآن ثابت ، هذا خلف ، وإن كان شيئا فقد ، شملته الآية فهو إذا مخلوق ، وبهذا استدل المريسي على عبد العزيز المكّي رحمهالله تعالى.
وهاتان الشبهتان أخذ في التعلق بالمتشابهات ، فإنهم قاسوا الباري على البرية ، ولم يعقلوا ما رواء ذلك ، فتركوا معاني الخطاب ، وقاعدة العقول.
أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) ، وهذه الآية نقلية عقلية ، لأن المشابه للمخلوق في وجه ما ، مخلوق مثله ، إذ ما وجب للشيء وجب لمثله ، فكما تكون الآية دليلا على نفي الشبه تكون دليلا لهؤلاء ، لأنهم عاملوه في التنزيه معاملة المخلوق ، حيث توهموا أن اتصاف ذاته بالصفات يقتضي التركيب.
وأما تركهم لمعاني الخطاب ، فإن العرب لا تفهم من قوله : (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) و (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أو (الْقَدِيرُ) ، وما أشبه ذلك إلا من له سمع وبصر وعلم وقدرة اتصف
__________________
(١) سورة : النساء ، الآية : ١٦٤.
(٢) سورة : الرعد ، الآية : ١٦.
(٣) سورة : الشورى ، الآية : ١١.