فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ـ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم ، بل فيه ما يدل على خلافه ، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعا شأنها أن تفهم التشريع ، وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد ، فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ـ فهم منها بلا شك أنها سنن إذا لم تفهم منها الفرضية ، فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة بذلك.
وعلى ذلك ترك التزام السلف الصالح لتلك الأشياء ، أو عدم العمل بها ، وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد ، لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا في مواضع كثيرة ، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (١) الآية ، وقوله : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢) ، بخلاف سائر العبادات.
ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر الله ، ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ، ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات ، إلا ما عينه الدليل كالغداة والعشي ، ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره كالذكر في العيدين وشبهه ، وما سوى ذلك فكانوا مثابرين على إخفائه وسره ، ولذلك قال لهم حين رفعوا أصواتهم : «أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» (٣) وأشباهه ، ولم يظهروه في الجماعات.
__________________
(١) سورة : الأحزاب ، الآية : ٤١.
(٢) سورة : الجمعة ، الآية : ١٠.
(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الدعوات ، باب : الدعاء إذا علا عقبة ، وباب : لا حول ولا قوة إلا بالله (الحديث : ١١ / ١٥٩). وأخرجه مسلم في كتاب : الذكر والدعاء ، باب : استحباب خفض الصوت بالذكر (الحديث : ٢٧٠٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : الدعوات ، باب : (٣). (الحديث : ٣٣٧٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : الاستغفار (الأحاديث : ١٥٢٦ ، ١٥٢٨).