بذلك ، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ، ولا يسمى بحسب الفعل جائزا ولا مباحا ، لأن الجمع بين الجواز والنهي ، جمع بين متنافيين.
والثاني : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود ، وتعيين الكيفيات ، والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك.
وهذا هو الابتداع والبدعة ، ويسمى فاعله مبتدعا ، فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ، وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة ، وإنما يخصها بالعبادات ، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول : «البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية» ، ولا بدّ من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة ، والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة ، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع ، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع ، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع ، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين ، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين ، وسائر العلوم الخادمة للشريعة. فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع ، إذ الأمر بإعراب القرآن منقول ، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنّة ، فحقيقتها إذا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى.
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس.
وكذلك أصول الدين ، وهو علم الكلام ، إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به ، كما كان الفقه تقريرا لأدلتها في الفروع العبادية.