وأما ثانيا : فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه ، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع ، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة ، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص.
أما الشرع ، ففيه ما يدل على خلاف ذلك ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ردّ على من قال : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا ، فردّ عليهم ذلك صلىاللهعليهوسلم وقال : «من رغب عن سنتي فليس مني» (١).
وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ، ولم يكن ما التزموا إلّا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر ، وكذلك ما في الحديث أنه عليهالسلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال : «ما بال هذا؟» قالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه» (٢) قال مالك : أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية.
ويعضد هذا الذي قاله مالك ما في البخاري عن قيس بن أبي حازم ، قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم ، فقال : «ما لها؟» فقال حجة مصمتة قال لها : «تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية» (٣) فتكلمت الحديث الخ.
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : النكاح ، باب : الترغيب في النكاح (الحديث : ١١ / ٤). وأخرجه مسلم في كتاب : النكاح ، باب : استحباب النكاح (الحديث : ١٤٠١). وأخرجه النسائي في كتاب : النكاح ، باب : النهي عن التبتل (الحديث : ٦ / ٦٠).
(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر فيما لا يملك وفي معصية (الحديث : ١١ / ٥١٢). وأخرجه في الموطأ في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما لا يجوز من النذور في معصية الله (الحديث : ٢ / ٤٧٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما جاء في النذر في المعصية (الحديث : ٣٣٠٥).
(٣) ذكر نحوه في جمع الفوائد قال : حديث صالح سكت عنه أبو داود وابن حجر ، وهو من طريق عمرو بن شعيب ، ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب فهو منقطع ، كذا في نيل الأوطار (٨ / ٢٥٢).