وقال مالك أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام : «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (١) إن ذلك أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام وإلى مصر وأشباه ذلك مما ليس فيه طاعة ، أو أن لا أكلم فلانا ، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة ، وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشي إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة ، فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره.
فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي ، حتى فسر فيها الحديث المشهور ، مع أنها في أنفسها أشياء مباحات ، لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله ، وكلّيّة قوله : «كل بدعة ضلالة» (٢) شاهدة لهذا المعنى ، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد ، وهي خاصية المحرم.
وقد مرّ ما روى الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله! من أين أحرم؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد ، فقال : لا تفعل ، قال : إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة ، قال : وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ إني سمعت الله تعالى يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣).
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر في المعصية (الحديث : ١١ / ٥٠٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : من نذر أن يطيع الله فليطعه (الحديث : ٣٢٨٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : النذور ، باب : من نذر أن يطيع الله فليطعه (الحديث : ١٥٢٦). وأخرجه النسائي في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر في المعصية (الحديث : ٧ / ١٧).
(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٣١ ، الحاشية : ١.
(٣) سورة : النور ، الآية : ٦٣.