فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه ، وهو مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وموضع قبره ، لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله ، فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادئ الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، واستدل بالآية. فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ في معنى الآية ؛ فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة؟
وقال ابن حبيب : أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول : التثويب ضلال. قال مالك : ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خان الدين ، لأن الله تعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) فما لم يكن يومئذ دينا ، لا يكون اليوم دينا.
وإنما التثويب الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذّن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، وهو قول إسحاق بن راهويه أنه التثويب المحدث.
قال الترمذي لما نقل عن سحنون : وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم ، والذي أحدثوه بعد النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإذا اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادئ الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة.
وقصة صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى ، فحكى ابن وهب قال : حدثنا مالك بن أنس قال : جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه ، ويقول : من يتفقه يفقهه الله ، من يتعلم يعلمه الله ؛ فأخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضربه بالجريد الرطب ، ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه ، فقال : يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأجهز عليّ ، وإلّا فقد شفيتني شفاك الله فخلّاه عمر.
قال ابن وهب : قال مالك ، وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغا حين بلغه ما يسأل عنه من القرآن وغير ذلك اه.
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.