فيها ، لا محالة ؛ فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل ، لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه ، بل البدعة أشد في هذا المعنى ، إذ الذنب قد لا يتبع عليه ، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالما بأنها بدعة مذمومة ، فحينئذ يصير في درجة الذنب ، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك ، فإن كان داعيا إليها فهو أشد ، وإن كان الإظهار باعثا على الاتباع ، فبالدعاء يصير ادعى إليه.
وقد روي عن الحسن أن رجلا من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتّبع ، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فجعل يبكي ويعج إلى ربه ، فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب ، فكيف بمن ضل فصار من أهل النار؟
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر ، فكأن المظهر لها يقول : هذه سنّة فاتبعوها.
قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلّى ووضع رداءه بين يدي الصف ، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال : من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ، فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف ؛ وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (١) فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا في غيره.
وفي رواية عن ابن مهدي قال : فقلت للحرسيين : تذهبان بي إلى أبي عبد الله؟ قالا : إن شئت ، فذهبنا إليه ، فقال : يا عبد الرحمن! تصلي مستلبا؟ فقلت : يا أبا عبد الله ، إنه كان
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل المدينة ، باب : حرم المدينة (الحديث : ١٨٦٧) ، وأخرجه في كتاب : الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب : إثم من آوى محدثا (الحديث : ٧٣٠٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الحج ، باب : فضل المدينة ودعاء النبي صلىاللهعليهوسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها.