يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير ، وكأن الخسف هاهنا التبييت المذكور في الآخر.
وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر ، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره ، وإنما الخمر عصير العنب النيء ، وهذا رأي طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر.
قال بعضهم : وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ، ولم يلتفتوا إلى جود المعنى المحرم وثبوته. قال : وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأخذ بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا : ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت ، وليس هذا باستباحة السبت.
بل الذي يستحل الخمر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه بأن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصود الخمر ، أفسد تأويلا من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا ، فلئن كان من القياسة ما هو حق ، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل ، وهو من القياس الجلي ، إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم.
فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالا لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء ، فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقا ، وللرجال في بعض الأحوال ، فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحوه ، وأبيح منه الحداء وغيره ، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر ، فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون ، إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء.
وقد خرّج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع» (١) قال بعضهم : يعني : العينة ، وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم
__________________
(١) أخرج نحوه النسائي في كتاب : (٤٤) ، باب : (٢). وابن ماجه في كتاب : (١٢) ، باب : (٥٨). والدارمي في كتاب : (١٨) ، باب : (٥). وأحمد في المسند (٢ / ٤٩٤). وأبو داود في كتاب :