وقال النخعي في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (١). قال : الجدال والخصومات في الدين.
وقال معن بن عيسى : انصرف مالك يوما إلى المسجد وهو متكئ على يدي ، فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء ، فقال : يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي ، فقال له : احذر أن أشهد عليك ، قال : والله ما أريد إلا الحق ، اسمع مني فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم. قال : فإن غلبتني؟ قال : اتبعني. قال : فإن غلبتك؟ قال : اتبعتك ، قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه؟ قال : اتبعناه ، فقال له ما لك : يا عبد الله! بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تنتقل.
وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل. وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء.
والكلام في ذم الجدال كثير ، فإذا كان مذموما فمن جعله محمودا وعدّه من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين ، ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة ، وذلك مظنة رفع الأصوات.
فإن قيل : عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك ، فرفع الأصوات قد يكون في العلم ، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد ، وإن كان في العلم أو في غير العلم.
قال ابن القاسم في المبسوط : رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد.
وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين : إحداهما : أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لأنه أمر بتعظيمه وتوقيره. والثانية : أنه مبني للصلاة ، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار ، فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى.
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد تسمى
__________________
(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦٤.