وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور وذكر أيضا قبائح سواها ، فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر ، أو وضع الرداء؟ وهو أقرب مراما وأيسر خطبا من أن تنشأ بدع محدثات ، يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها.
وأما المفسدة المالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملين بحكم المخالفة ، وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها ، ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة ، لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار ، لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات.
وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعملهم بالربا فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك ، وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحليّ المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنا بوزن ، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلا ، والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها ، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم ، ولم يزل العلماء من السلف الصالح من بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء ، حتى كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو أشد من ترك السنن ، وأولى أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع ، وقد مر بيان هذا في باب البيان من كتاب (الموافقات) فقد ذكروا أن عثمان رضي الله عنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : أليس قد قصرت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ فيقول : بلى ولكني إمام الناس فينظر إليّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون : هكذا فرضت.
قال الطرطوشي : تأملوا رحمكم الله! فإن في القصر قولين لأهل الإسلام : منهم من يقول : فريضة ، ومن أتم فإنما يتم ويعيد أبدا.
ومنهم من يقول : سنّة ، يعيد من أتم في الوقت ؛ ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنّة لما خاف من سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان.