فهذا المعنى مناسب ، لأن الكفارة ، مقصود الشرع منها الزجر ، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير ، وقائل بالترتيب ، فيقدم العتق على الصيام ، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به ، على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ، لكنه على صريح الفقه.
قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة. فسأل مالكا ، فقال : صيام ثلاثة أيام ، واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة (١).
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به ، فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان ، فأفتوا بالإطعام ، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له : لا أقول بقولهم ، وأقول بالصيام ، فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك ، إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر بالإطعام لمن له مال ، وأمير المؤمنين لا مال له ، إنما هو مال بيت المسلمين ، فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه. ا ه. وهذا صحيح.
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان ، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته ، فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين ، فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده ، فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمهالله ، وكان كلامه على ظاهره ، كان مخالفا للإجماع.
الثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة ، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه. فهذا على وجهين.
__________________
(١) قرطبة : مدينة بالأندلس وسط بلادها وبها كانت ملوك بني أمية وبينها وبين البحر خمسة أيام.