فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا ، كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات ، دون الملبوسات والمركوبات ، والنظر والمشي والكلام ، وأشباه ذلك ، وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراح ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد ، وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع ، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس ، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ، ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع.
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته ، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة ، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه ، سواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد ، أم لم نقله : اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه ، والمسكوت عنه ، فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى.
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه : «كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلا تعبّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا بطريق من كان قبلكم» ونحوه لابن مسعود أيضا ، وقد تقدم من ذلك كثير.
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي ، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ، ورفع الأحداث ، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره ، حتى اشتراط في رفع الأحداث النية ، ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق ، وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد ، وما أشبه ذلك.
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات ونذوره ، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى