أحدها : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة ، فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلا لم يكن لنصت الدلالة الشرعية عليه معنى ، فيكون عبثا ، وهو باطل.
والثاني : أن الله تعالى قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١). فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب.
والثالث : أن الله تعالى قال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢). فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم.
والرابع : أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٣) إلى آخرها ، فأمرهم بالاعتبار بعبرته ، والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ، ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ، ويصدروا عما اطمأنت إليه قلوبهم ، وقد وضع الأعلام والأدلة ، فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت ، دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله.
وهذا ما حكاه الطبري عمن تقدم ، ثم اختار إعمال تلك الأحاديث ، إما لأنها صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها ، كحديث «الحلال بيّن والحرام بيّن» (٤) إلى آخر الحديث ، فإنه صحيح خرّجه الإمامان ، ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه ، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات ، فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال : إذا
__________________
(١) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.
(٢) سورة : النحل ، الآية : ٤٣.
(٣) سورة : الغاشية ، الآية : ١٧.
(٤) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه ، وأخرجه في كتاب : البيوع ، باب : الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات (الحديث : ١ / ١١٧). وأخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات (الحديث : ١٥٩٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : في اجتناب الشبهات (الأحاديث : ٣٣٢٩ ، ٣٣٣٠). وأخرجه الترمذي في كتاب : البيوع ، باب : ما جاء في ترك الشبهات (الحديث : ١٢٠٥). وأخرجه النسائي في كتاب : البيوع ، باب : اجتناب الشبهات في الكسب.