التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، وإنما وقع اختلافهم في الطريق ، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع.
وأيضا ، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده ، كما رجع من الحرورية الخارجين على عليّ رضي الله عنه ألفان ، وإن كان الغالب عدم الرجوع ، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة.
حكى ابن عبد البرّ بسند يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما اجتمعت الحرورية يخرجون على عليّ ، جعل يأتيه الرجل فيقول : يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك ، قال : دعهم حتى يخرجوا ، فلما كان ذات يوم قلت : يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ : فدخلت عليهم وهم قائلون ، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر ، قد أثر السجود في جباههم ، كأن أيديهم ثفن (١) الإبل عليهم قمص مرحضة (٢) فقالوا : ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ ـ قال ـ : قلت : ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ : ثم قرأت هذه الآية : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (٣) فقالوا : ما جاء بك؟ قال : جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وليس فيكم منهم أحد ، ومن عند ابن عمّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله ، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم ، فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٤) فقال بعضهم : بلى! فلنكلمه ـ قال ـ : فكلمني منهم رجلان ، أو ثلاثة ـ قال ـ : قلت : ما ذا نقمتم عليه؟ قالوا : ثلاثا ، فقلت : ما هنّ؟ قالوا : حكّم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٥) ـ قال ـ هذه واحدة ، وما ذا أيضا؟ قالوا : فإنه قاتل فلم يسب ولم يغنم ، فلئن كانوا مؤمنين ما
__________________
(١) الثفن : جمع ثفنة وهي الجزء من جسم الدابة تلقى به الأرض فيغلظ ويجمد.
(٢) المرحضة : المغسولة.
(٣) سورة : الأعراف ، الآية : ٣٢.
(٤) سورة : الزخرف ، الآية : ٥٨.
(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٧.