وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها ، فإن كانت محتاجا إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ، ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها ، فهي البدع المحدثات ، إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع ، لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم ، فليست بمحتاج إليها ، فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله.
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ، ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت عليّ حرام؟ وأشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا ، بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد ، واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنّة ، وإن لم يكن ذلك بالنص فإنه بالمعنى ، فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه.
وننتقل منه إلى معنى آخر ، وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرّأ عن الاختلاف والتضادّ ، ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار ، فقال سبحانه وتعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١) فدلّ معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف ، فهو يصدّق بعضه بعضا ، ويعضد بعضه بعضا ، من جهة اللفظ ومن جهة المعنى.
فأما جهة اللفظ : فإن الفصاحة فيه متواترة مطّردة ، بخلاف كلام المخلوق.
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته ، وهكذا تجد القصيدة الواحدة ، منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ، ومنها ما لا يكون كذلك.
وأما جهة المعنى : فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ، ولا تضادّ
__________________
(١) سورة : النساء ، الآية : ٨٢.