فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :
إحداهما : إنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإن كان بتأويل ، لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا ، وفي القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا. ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ، ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالا ... إلى آخره. مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحيّ ظاهر تعضده مسائل شرعية ، وقواعد أصولية ، لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا ، فلم تقو عند آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر ، فالتزمه ، ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق ، وهو الشرع.
والثانية : إن أبا بكر رضي الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء الله من الفرقتين ، ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضي الله عنه لم يعتبر إلّا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل ، فكان ذلك أصلا في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام ، نظير ما قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) الآية ، فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة ، فكذلك لم يعدّ أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي صلىاللهعليهوسلم وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه بردّ البعث الذي بعثه رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع أسامة بن زيد ـ ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة ، فأبى من ذلك ، وقال : ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره.
__________________
ـ في كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله (الحديث : ٢٦١٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الزكاة (الحديث : ١٥٥٦). وأخرجه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : مانع الزكاة (الحديث : ٥ / ١٤).
(١) سورة : التوبة ، الآية : ٢٨. والعيلة : الفقر.