وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، وردّ الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياسا ، دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون ، بالرأي المضارع للظن ، قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياء ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل.
وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي ، وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيه منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهة» (١) ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز ، وبحسب عظم المفسدة في الممنوع ، يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته.
وما تقدم من الأدلة يبين لك عظم المفسدة في الابتداع فالحوم حول حماه يتسع جدا ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تعجلوا بالبلية قبل
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه ، وفي كتاب : البيوع ، باب : الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات (الحديث : ١ / ١١٧). وأخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات (الحديث : ١٥٩٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : اجتناب الشبهات (الحديث : ٣٣٢٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : البيوع ، باب : ما جاء في ترك الشبهات (الحديث : ١٢٠٥).