نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق هاهنا وهاهنا» (١) وصح نهيه عليه الصلاة والسلام عن كثرة السؤال. وقال : «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها» (٢). وأحال بها جماعة على الأمراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء.
وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم ، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، ثم أجاب.
وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل : ناولنيها ، فناوله الصحيفة فخرقها.
وسئل القاسم بن محمد عن شيء فأجاب ، فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به.
وقال مالك بن أنس : قبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا نتبع الرأي ، فإنه متى اتّبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك ، فاتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم.
ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣). ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم من تعمق فيه : فقد كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به في الأحكام ،
__________________
(١) أخرج معناه الدارمي في المقدمة (١ / ٤٩) ، باب : التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة من حديث وهب بن عمير الجمحي.
(٢) أخرجه الدارقطني في سننه صفحة (٥٠٢) في كتاب : الرضاع ، وله شاهد بمعناه أخرجه البزار والحاكم وصححه وغيرهما ، وقد حسّنه النووي في أربعينه.
(٣) سورة : الجاثية ، الآية : ٣٢.