وتحدثت الآية الثالثة عن ابناء آدم «هابيل» و «قابيل» عندما تقبّل الله قربان هابيل بسبب إخلاصه ولم يتقبّل قربان قابيل لعدم اخلاصه فيه ، فتأججت نار الحسد في قلب قابيل وهدد أخاه بالقتل ، فقال هابيل إن قصدت قتلي فإنني لن أفعل ذلك لأنني أخاف الله ، ثم أضاف : (انَّى ارِيدُ انْ تَبُوأَ بِاثْمى وَاثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ اصْحَابِ النَّارِ).
وهذا يدل على أنّ مسألة المعاد كانت من الامور البديهية لدى أولاد آدم منذ ذلك الزمان ، لذا هدد هابيل أخاه قابيل بعذاب الله في الدار الآخرة.
و «بَوَأَ ، تبوءَ» من مادة «بواء» ، قال الراغب في المفردات : هي في الأصل بمعنى السطح الصقيل ، وتقابلها «نبوة» التي بمعنى السطح غير الصقيل ، لذا عندما يقال بوّأتُ مكاناً فهذا يعني ساويت له سطح المكان.
وتأتي هذه الكلمة أحياناً بمعنى الإقامة وملازمة المكان أيضاً ، لأنّ الإنسان إذا ما أراد أن يقيم في مكانٍ ما فإنّه ينظم سطحه ويساويه ، وقد فسروا هذه الآية بهذا المعنى أيضاً.
لكن صاحب «المصباح المنير» فسّرها بمعنى الاعتراف وحمل العبء الكبير ، أمّا صاحب المقاييس فقد ذكر لها معنيين هما : عودة الشيئين ، وتساوي الشيئين.
وقال صاحب كتاب «التحقيق» ، إنّ الأصل فيها هو (السفول) والانحطاط ، وعدّ جميع المعاني الاخرى من المجاز واعتبرها من لوازم المعنى الحقيقي ، وطبقاً لهذا المعنى يصبح مفهوم الآية المعنية بالبحث : إنّي اريد أن تسقط من ساحة الرحمة الإلهيّة بإثمك وإثمي.
وتتبع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن المجيد والمصادر الاخرى يؤيد ماذكره صاحب المقاييس من أنّ هذه الكلمة لها مفهومان وكلا المفهومين ينطبقان على الآية المعنية ، فطبقاً للمعنى الأول تصبح الآية بهذا المعنى : «إنّي اريد أن تعود (إلى الله) وأنت تحمل إثمك وإثمي» ، وطبقاً للمعنى الثاني تصبح بهذا المعنى : «إنّك تعدّ مكاناً لنفسك بارتكابك هذا الإثم وحملك إثمي».
وهنا يطرح هذا السؤال المهم : ما هو المراد من ذنب هابيل الذي قُتِلَ على يد أخيه حتى يثقل كاهل أخيه؟ وكيف يمكن قبول هذا الحديث أساساً مع أنّ الآية تقول : (الَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ