المنطق الفصيح ، ليتعرّض لتحصيل مطالبه ، واكتساب مأربة ، وحبّبه إلى أبيه لاحتياجه حينئذٍ إليه ، حيث لا مُعوّل له بعد الله إلا عليه.
حتّى إذا بلغ الكمال وملّت أهاليه من تربيته في تلك الحال ، أودعه قوّة يقتدر بها على المعاش ، واقتناء اللباس والغطاء والفراش ، بعد أن شقّ له سمعاً قسّمه على الجانبين ، وحرسه من لطفه بحوّاطتين تحرسانه عن وصول ما يسدّه من القذارات ، وحصّنه بمُرّ الوسخ عن بلوغ مؤذيات الحيوانات ، وبصراً في محلّ مكشوف ، ليتمكّن من الإبصار ، وسوّره بجفنين يحفظانه من المضارّ.
وجعل له أمعاء وشهوة الغذاء ، ومجرى الشراب والطعام والهواء ، وأودعه قوّة جاذبة ترسل ذلك إلى ماسكة مصحوبة بهاضمة ، مناولة لدافعة ، وخلق له مدخلاً ومخرجاً ، ويداً للبطش ، ورجلاً للمشي ، وآلة وإمناءً ، ورحماً يحفظ تلك النطفة إلى حيث يشاء.
فتبارك الله الذي خلق الأشياء (١) بلا مثال ، وأقام الخلائق على أحسن اعتدال ، فلو تأمّلت في نفسك التي بين جنبيك ، وتفكّرت بجسمك الذي هو محطّ عينيك ، فضلاً عن أن توجّه حواسّ الإدراك إلى عجيب صنع الأفلاك ، وما أحاطت به الأرضون والسماوات من عجائب المخلوقات من الملائكة المقرّبين ، وضروب الجنّ والشياطين ، لأنبأك هذا النظام المستقيم الجاري على النهج القويم ؛ أنّ هناك مُوجِداً لا يُعارض ، وحاكماً لا يناقض ، عالماً بحقائق الأشياء ، قديراً على ما يشاء ، ولو دخله الجهل أو العجز فسد النظام ، ولم يحصل للصنع ذلك الإحكام.
وعلومه الذاتيّة نسبتها إلى المعلومات بالسويّة.
وقدرته عامّة لجميع المقدورات ؛ لأنّها ثابتة بمقتضى الذات.
والعلم والقدرة برهانان على حياة الجبّار. وجري الأفعال على وفق المصالح أبينُ شاهد على أنّه فاعل مختار ، قديم أزليّ ، لم يُسبق بعدم أصليّ ، وإلا لم يكن قادراً ،
__________________
(١) في «ح» : الإنسان.